السبت، 21 أغسطس 2010

وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا


الشيخ/ عبدالعزيز الجليل

تفسير قوله (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا),سورة البقرة: 143.
المقصود من استعراض أقوال السلف من تفسير هذه الآية هنا هو:
 الوقوف على المعنىالحق لمفهوم "الوسطية" والأمة الوسط, وذلك حتى ننطلق من هذا المعنىالصحيح في ذكر الأمثلة والمظاهر المتنوعة لهذه السمة المميزة للإسلام وأهله.

ورد تفسير "الأمة الوسط" في السنة النبوية, كما ذكر لها المفسرون عدةمعان, وتفصيل ذلك كما يلي:

روى البخاري عن أنس بن سعيد الخدري رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى اللهعليه وسلم: "يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يارب, فيقول: هل بلغت؟فيقول: نعم فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير, فيقول: من يشهد لك؟فيقول: محمد وأمته, فيشهدون أنه قد بلغ, ويكون الرسول عليكم شهيداً فذلك قوله جلذكره: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَىالنَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا), سورة البقرة: 143. والوسط:العدل(1).
وروى الطبري بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وَكَذَلِكَجَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) قال: "عدولاً"(2).
وقال ابن زيد: هم وسط بين النبي صلى الله عليه وسلم, وبينالأمم(3).
وقال الإمام الطبراني: "وأما الوسط فإنه في كلامالعرب: الخيار, يقال منه: فلان وسط الحسب في قومه, أي متوسط الحسب, إذا أرادوابذلك الرفع في حسبه.
قال زهير بن أبي سُلمى في الوسط:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم         إذا نزلت إحدى الليالي بعظمِ
وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم فيالدين, فلا هم أهل غلو فيه, غلو النصارى الذين  غلوا بالترهب, وقيلهم في عيسىما قالوا فيه ولا هم أهل تقصير فيه, تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله, وقتلواأنبياء هم, وكذبوا على ربهم, وكفرو به(4).
ومنه الصلاة الوسطى, التي هي أفضل الصلوات, وهي العصر, كما ثبت في الصحاح وغيرها.

وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْأُمَّةً وَسَطًا): "أي:
 عدلاً وخيار, وماعدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر, فيجعل الله هذه الأمة وسطاً في كل أمور الدين,وسطاً في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى, وبين من جفاهم كاليهود, بأن آمنوابهم كل على الوجه اللائق بذلك.
ووسطاً في الشريعة, لا تشديدات اليهود وآصارهم, ولا تهاون النصارى.
وفي باب الطهارة والمطاعم, لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهموكنائسهم, ولا يطهرهم الماء من النجاسات, قد حرمت عليهم طيبات عقوبة لهم.
ولا كالنصارى الذي لا ينجسون شيئاً ولا يحرمون شيئاً, بل أباحوا ما دب ودرج.
بل طهارتهم أي هذه الأمة أكمل طهارة وأتمها, وأباح لهم الطيبات من المطاعم,والمشارب, والملابس, والمناكح, وحرم عليهم الخبائث من ذلك(5).
وقال سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية:
"إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعاً, فتقيمبينهم العدل والقسط, وتضع لهم الموازين والقيم, وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأيالمعتمد, وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها, وتقول: هذا حقمنها وهذا باطل. لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها. وهي شهيدة علىالناس, وفي مقام الحكم العدل بينهم وبينما هي تشهد على الناس هكذا, فإن الرسول هوالذي يشهد عليها, فيقرر لها موازينها وقيمها, ويحكم على أعمالها وتقاليدها, ويزينما يصدر عنها, ويقول فيها الكلمة الأخيرة.

"أمة وسطاً"
في التصور والإعتقاد لا تغلوا في التجرد الروحي ولا فيالإرتكاس المادي.
إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد, أو جسد تتلبس به روح.
"أمة وسطاً"
 في التفكيروالشعور, لا تجمد على ماعلمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة.
ولا تتبع كذلك كل ناعق, وتقلد تقليد القردة المضحك, إنما تستمسك بمالديها منتصورات ومناهج  وأصول, ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب, وشعارها الدائم:الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها, وفي تثبت ويقين(6).
ويستدل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله تعالى(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) على وجوب اتباع الصحابة رضي الله عنهمفيقول: "ووجه الاستدلال بالآية أنه تعالى أخبر أنه جعلهم أمة خياراً عدولاً,هذا حقيقة الوسط, فهم خير الأمم, وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإرادتهم ونياتهم,وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة, والله تعالى يقبلشهادتهم عليهم, فهم شهداؤه, ولهذا نوه بهم, ورفع ذكرهم, وأثنى عليهم..(7).
وبعد استعراض ما سبق من أقوال المفسرين يتبين لنا فهم واضحمحدد لمعنى الوسطية المذكورة في صفة هذه الأمة وكونها أمة وسطاً.


وهذا الفهم يتحدد في معنيين هما:
الأول: الخيرية والأفضلية.
الثاني: التوازن والعدل والقيام بالحق, والبينية بين الإفراط والتفريط.
والوسطية والعدل والبينية تقتضي أن يكون هناك طرفان مذمومانيكتنفان الوسط والعدل.
أحدهما: ينزع إلى الغلو والإفراط.
والآخر: ينزع إلى التفريط والإضاعة والجفاء.
وفي هذا المعنى يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "وقالبعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط, وإما إلىمجاوزة, وهي الإفراط, ولا يبالي بأيهما ظفر: زيادة أو نقصان"(8).
ويحسن بنا في هذا المقام أن نتعرض لمفهوم الغلو والإفراط, ومفهوم الجفاء والتفريطبعد أن اتضح لنا معنى الوسط والعدل والتوازن.
أولاً: الغلو والإفراط:
قال الجوهري: "وغلا في الأمر يغلو غلواً أي: جاوز فيه الحد"(9).
وقال في اللسان: "وغلا في الدين والأمر يغلو غلواً:جاوز حده, وقال في التنزيل (لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ), سورة النساء: 171...وقال بعضهم: غلوت في الأمر غلواً وغلانية وغلانياً إذا تجاوز فيه الحد وأفرطتفيه... ويقال للشيئ إذا ارتفع: قد غلا, وغلا النبت: أي ارتفع وعظم" (10).
وقوله تعالى: (76 قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُوَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ), سورة المائدة: 77.
قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى: "لا تفرطوا فيالقول فيما تدينون به من أمر المسيح فيتجاوزوا فيه الحق إلى الباطل. فتقولوا فيه: هو الله أو هو ابنه, ولكن قولوا: هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحمنه"(11).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:"والنصارى أكثر غلواً في الإعتقادات والأعمال من سائر الطوائف, وإياهم نهىالله عن الغلو في القرآن"(12).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في آية المائدة:"أي لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق ولا تُطْروا من أُمرْتم بتعظيمه فتبالغلوافيه حتى تخرجوه من حيز النبوة إلى مقام الإلهية كما صنعتم في المسيح, وهو نبي منالأنبياء فجعلتموه إلهاً من دون الله"(13).
وأما في السنة فقد ورت أحاديث كثيرة تنهى عن الغلواوالتشديد في الدين, وذكر بعضها هنا يساعد في فهم معنى الغلو وحدوده.
الحديث الأول:
 عن ابن عباس رضيالله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم, غداة جمع: "هلم القطلي الحصى", فقلنا له حصيات من حصى الخذف, فلما وضعهن في يده قال: "نعمبأمثال هؤلاء وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو فيالدين"(14).
الحديث الثاني:
 عن ابن مسعود رضيالله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطون". قالهاثلاثاً(15).
قال النووي: "هلك المتنطعون: أي المتعمقون المغالونالمجازون الحدود في أقوالهم (16).
الحديث الثالث:
 عن أبي هريرة رضيالله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحدإلا غلبه, فسددوا وقاربوا وأبشروا, وستعينوا بالغدوة والروحة وشيئ منالدلجة"(17).
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: "والتسديد: العمل بالسداد, وهو القصد والتوسطفي العبادة, فلا يقصر فيما أمر به ولا يتحمل ما لا يطيقه"(18).
ثانيا:التفريط والجفاء:
قال في اللسان: "التفريط هو التضييع. وقال:  (وَكَانَ أَمْرُهُفُرُطًا), سورة الكهف: 28.
أي: كان أمره التفريط وهو تقديم العجز, وفرط في الأمر يفرط فرطاً. أي: قصر فيهوضيعه حتى فات, وكذلك التفريط"(19). ا. هـ.
وقال الجوهري: "فرط في الأمر فرطاً: أي قصر فيه وضيعه حتى فات, وكذلك التفريط"(20).
وقد وردت مادة "فرط" في القرآن في عدة مواضع:
قال تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَاجَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا),سورة الأنعام: 31.
وقال القرطبي: وفرطنا معناه ضيعنا, وأصله, التقدم, يقال: فرط فلان أي تقدم وسبقإلى الماء
ومنه: "أنا فرطكم على الحوض"(21).. ومنه في الدعاء للصبي: اللهم اجعلهفرطا لأبويه,

قال ابن عباس: "لايفرطون". لا يضيعون.
قال القاسمي: (فَرَّطتُمْ ِفي يُوسُفَ). قصرتم في شأنه(22).
وبالتعرف على معنى التفريط نكون قد أحطنا علما بالطرفين المذمومين المخالفينللوسطية والعدل, هما: طرف الغلو والإفراط, وطرف التفريط والتقصير, وأن الميزانالعدل وسط بينهما في كل الأمور.
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "والسلف يذكرون هذين الأصلينكثيراً وهما الاقتصاد في الأعمال والاعتصام بالسُّنة فإن الشيطان يشم قلب العبدويختبره, فإن رأى فيه داعية للبدعة, وإعراضاً عن كمال الانقياد للسنة أخرجه عنالاعتصام به, وإن رأى فيه حرصاً على السُّنة, وشدة طلب لها  لم يظفر به منباب اقتطاعه عنها,  فأمره بالاجتهاد والجور على النفس, ومجاوزة حد الاقتصادفيها قائلاً له: إن هذا خير وطاعة, والزيادة والاجتهاد فيها أكمل, فلا تفتر مع أهلالفتور, ولا تنم مع أهل النوم, فلا يزال يحثه ويحرضه حتى يخرجه عن الاقتصاد, فيخرجعن حدها, كما أن الأول خارج عن هذا الحد, فكذا هذا الآخر خارج عن الحد الآخر.

وهذا حال الخوارج الذين يحقرِ أهل الإستقامة صلاتهم مع صلاتهم, وصيامهم مع صامهم,
وقراءتهم مع قراءتهم, وكلا الأمرين خروج عن السنة إلى البدعة, لكن هذا إلى بدعةالتفريط, والإضاعة, والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف.
وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان.
إما إلى تفريط, وإما إلى مجاوزة, وهي الإفراط ولا يبالي بأيهما ظفر زيادة أونقصان" (23).
(وقد يجتمعان في الشخص الواحد كما هو حال أكثر الخلق, يكون مقصراً مفرطاً في بعضدينه, غالياً متجاوزاً في بعضه, والمهدي من هداه الله).(24) ا.هـ.

تنبيه:

مسألة الموازنات في المصالح والمفاسد شأنها عظيم ولا يصلح أن يشتغل بها إلاالراسخون في العلم, المجتهدون الربانيون الذين حباهم الله رسوخاً في العلموالتقوى, وحماهم من الهوى وأغراض الدنيا, فهؤلاء هم الذين تتبع الأمة فتاواهمومواقفهم لأنهم وإن بدا للوهلة الأولى أن في فتاواهم تقصيرًا, فإنهم قد انطلقوا فيتقريرها من ضوابط شرعية دقيقة, ومن تجرد وإخلاص.
فمثل هذه الفتاوي لا يقال عنها إنها تفريط وتقصير, وإنما هي من العدل والحق إن شاءالله تعالى.
نعم لو أن من يتصدى لذلك كان من غير المعروفين بالرسوخ في العلم او من المعروفينبالهوى وحظوظ الدنيا, فإن فتاواهم في الغالب تنطلق من هوى أو دون ضوابط شرعية,وحينئذ يصدق على أمثال هؤلاء وصفهم بالتفريط والإضاعة.

فما أعظمه من دين, وما أجله من تشريع جاء لإسعاد الناس وإخراجهم من ظلمات الشركوالبغي والعدوان إلى نور التوحيد والعدل والقسطاس المستقيم, فنحمده سبحانه علىالهداية لهذا الدين القويم العظيم ونسأله عز وجل أن يثبتنا عليه وأن يميتنا عليه,وأن يجعلنا من الداعين إلى سبيله المستقيم, وأن يكتب على أيدينا إخراج من يشاء منعباده من عبادة العباد إلى عبادته وحده سبحانه, ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام,ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا الآخرة.


ـــــــــــــــ
(1) البخاري(4487), وقال الحافظ في الفتح: (8/22) قوله: (الوسط: العدل ) هو مرفوعمن نفس الخبر وليس بمدرج من قول بعض الرواة كما وهم فيه بعضهم.
(2) تفسير الطبري: (2/7), والحديث رواه الترمذي: (5/190), وصححه الألباني  فيصحيح الترمذي: (2361).
(3) تفسير الطبراني: (2/7).
(4) تفسير الطبراني : (2/6).
(5) تفسير السعدي: (1/157).
(6) في ظلال القرآن: (1/13).
(7) بدائع التفسير: (1/369).
(8) مدارج السالكين: (2/342), ط. دار طيبة.
(9) مختار الصحاح: (6/2448).
(10) لسان العرب: مادة (غلا).
(11) تفسير الطبراني: (68316).
(12) اقتضاء الصراط المستقيم: (1/289).
(13) تفسير  ابن كثير: (2/82).
(14) االنسائي: (5/268) برقم (3057), وابن ماجة: (3029), وصححه الألباني فيالسلسلة الصحيحة: (1283).
(15) مسلم: (2670).
(16) شرح مسلم  للنووي: (16/220).
(17) البخاري: (39).
(18) المحجة في سير ا لدلجة: (ص51).
(19) لسان العرب: مادة (فرط).
(20) مختار الصحاح.
(21) أخرجه البخاري في الرقاق: (6575), ومسلم في الفضائل: (2297).
(22) انظر تفسير القاسمي: (9/3579).
(23) مدارج السالكين: (2/342), دار طيبة.
(24) الروح لا بن القيم: (545), دار إحياء العلوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر قراءة